
بقلم فادي زواد السمردلي

في عالم يتسارع فيه تطور الذكاء الاصطناعي بوتيرة غير مسبوقة، ويزداد فيه القلق من مخاطره الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية، جاءت الصين لتطرح رؤيتها الواضحة والواسعة لحوكمة هذه التكنولوجيا من خلال خطة عمل مكوّنة من ثلاث عشرة نقطة فهذا المقترح، الذي تم الإعلان عنه رسميًا خلال مؤتمر الذكاء الاصطناعي العالمي في شنغهاي عام 2025، ليس مجرد وثيقة تقنية أو إدارية، بل هو محاولة جادة لصياغة عقد اجتماعي عالمي جديد حول كيفية إدارة الذكاء الاصطناعي، بما يضمن أن يبقى في خدمة الإنسان، لا العكس.
تنطلق الخطة من مبدأ أساسي: أن الذكاء الاصطناعي يجب أن يُطوّر ويُستخدم بشكل يخدم مصالح البشر جميعًا، ويعزز العدالة الاجتماعية، ويحترم القيم الأخلاقية المشتركة وترى الصين أن التكنولوجيا لا يمكن فصلها عن البعد الإنساني، ولا عن خصوصية المجتمعات والدول، لذلك تضع السيادة الوطنية كأحد أعمدة رؤيتها، وتؤكد رفضها لاستخدام الذكاء الاصطناعي كأداة للتدخل السياسي أو لفرض نماذج قيمية وثقافية بالقوة، وهو ما يعكس موقفًا واضحًا لصالح عالم متعدد الأقطاب رقميًا، وليس عالمًا تهيمن عليه جهة واحدة.
في هذا الإطار، تدعو الخطة إلى التزام صارم بالقانون الدولي، مع تطوير قوانين جديدة تتماشى مع الواقع الرقمي المتغير. وبدلًا من الحظر الكلي أو الانفتاح غير المنضبط، تقترح الصين نهجًا مرنًا قائمًا على تقييم المخاطر، أي أن يُصنف كل نوع من الذكاء الاصطناعي بناءً على مخاطره وتأثيره، وتُصمم له سياسة تنظيمية تتناسب مع درجة هذه الخطورة وهذا النهج يتيح مساحة للابتكار دون التفريط في السلامة المجتمعية.
اللافت أيضًا في الخطة هو تركيزها على الجانب العملي للحوكمة إذ تدعو إلى تطوير أدوات ذكية تساعد في تنظيم الذكاء الاصطناعي باستخدام الذكاء الاصطناعي ذاته، مثل أنظمة مراقبة الخوارزميات، واكتشاف الأخطاء والتحيزات، وتحسين الشفافية كما تشدد على أهمية أن تبقى السيطرة في يد الإنسان، وأن يكون كل نظام قابلًا للتفسير والفهم، بما يضمن ألا يتحول الذكاء الاصطناعي إلى “صندوق أسود” غير قابل للمساءلة.
أما على المستوى الأخلاقي، فتطالب الخطة بوضع مرجعيات مهنية وأخلاقية واضحة لمطوري الذكاء الاصطناعي ومستخدميه، بحيث يُحاسب الجميع على أفعاله التقنية، سواء في الشركات أو الحكومات وهي أيضًا تركز على الشفافية، وحماية الخصوصية، ومكافحة التحيز، من لحظة جمع البيانات إلى تصميم الخوارزميات وحتى التطبيق النهائي.
واحدة من أبرز النقاط في هذه الخطة هي دعوتها الصريحة إلى إشراك الدول النامية في صياغة مستقبل الذكاء الاصطناعي، ليس فقط كمستفيدين، بل كصنّاع قرار وشركاء فاعلين.فالصين تدرك أن العدالة الرقمية لا تتحقق إلا بتوزيع متوازن للفرص، والمعرفة، والتقنيات لذلك، تقترح أن تكون المنظمة الدولية المقترحة أداة لدعم القدرات التقنية للدول ذات الموارد المحدودة، عبر التدريب، ونقل التكنولوجيا، وتمكين البنى التحتية الرقمية.
ما تقدمه الصين هنا ليس بديلًا تقنيًا فقط، بل هو بديل فلسفي ومؤسسي لكيفية إدارة الثورة التكنولوجية المقبلة وبينما تسود في بعض الأوساط العالمية نماذج ترتكز على السوق الحرة أو السيطرة التكنولوجية للشركات الكبرى، تسعى بكين إلى تقديم نموذج حوكمة يجمع بين التنظيم والمصلحة العامة، بين الابتكار والمسؤولية، بين السيادة والانفتاح. وفي هذا السياق، لا تبدو هذه الخطة مجرد وثيقة سيادية، بل مشروعًا عالميًا مفتوحًا لكل من يؤمن بأن الذكاء الاصطناعي، رغم قوته، يجب أن يظل خادمًا للإنسان، لا سيدًا عليه.
إن تبني هذا الإطار الصيني قد يُعيد رسم الطريقة التي يفكر بها العالم في التكنولوجيا، وقد يكون مقدمة لعصر جديد تتوازن فيه القوى الرقمية، وتُبنى فيه الثقة عبر الحوكمة الذكية، لا الهيمنة أو الاحتكار.