د. ابتسام محمد العامري
حاولت الولايات المتحدة الأمريكية فرض هيمنتها على العالم، بصفتها القطب الأوحد فيه، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي مما أثار خشية الدول العربية من هذه الهيمنة التي دفعتها للاتجاه نحو الصين التي أقاموا معها علاقات وثيقة ذات أبعاد إستراتيجية، تضمن المنفعة المشتركة لكلا الجانبين، إذ أبدت الصين اهتماما متزايدا بالتعاون المشترك مع الدول العربية، خاصة في قطاع الطاقة لدعم اقتصادها، وحل مشكلاتها التنموية في الداخل، وتعزيز موقعها على المستويين الآسيوي والعالمي. وساعدت سياسة الانفتاح التي اعتمدتها الصين في المجالين الدبلوماسي والاقتصادي، على تعزيز التعاون وتطويره مع جميع الدول العربية، فأصبحت الصين في طليعة التكتلات الاقتصادية العملاقة المستثمرة في العالم العربي.
هكذا بدأت تتحقق تدريجيا الأهداف المباشرة والطويلة الأمد، التي ساهمت في إنشاء منتدى التعاون العربي- الصيني، وفي طليعتها: تشجيع التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول العربية لتحقيق الاستقرار الداخلي ومعالجة مشكلات الفقر والبطالة، ومساعدة الصين في البحث عن حل سلمي للصراع العربي- الصهيوني، وتشجيع العرب على تأدية دور فاعل في إقامة عولمة أكثر عدالة وإنسانية. وطالبت الصين إسرائيل باحترام الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، وإنهاء احتلالها للجولان السوري، ووقف اعتداءاتها اليومية المستمرة على لبنان، وساعدت دول الخليج العربية على حماية مصادر الطاقة لضمان التنمية المستدامة واستقرار التطور الصناعي ومعدلات النمو الاقتصادي في العالم.
تمكنت جامعة الدول العربية والصين من إيجاد آلية فعالة ومتطورة، تمكنهما من تعزيز العلاقات العربية- الصينية، من خلال الاتفاق على تأسيس منتدى للتعاون العربي- الصيني في عام 2004 بين أمين عام جامعة الدول العربية السابق عمرو موسى ووزير خارجية الصين الأسبق لي تشاو تشينغ، ليكون إطارا للحوار والتعاون الجماعي يقوم على أساس المساواة والمنفعة المتبادلة وعلاقات شراكة تتميز بالتعاون والتكافؤ. وقد أكدت المادة الثانية من إعلان المنتدى على مبدأ أساسي هو دعم الصين لعملية السلام في الشرق الأوسط على أساس مبدأ “الأرض مقابل السلام”، وبالمقابل دعم العرب لمبدأ الصين الواحدة، وتضمن الإعلان أيضا دعوة الطرفين إلى التنسيق السياسي حول مختلف القضايا الدولية والإقليمية ودعم التعاون الاقتصادي وتشجيع الاستثمار.
أولى الجانبان العربي والصيني أهمية بالغة لتنفيذ وتفعيل ما توصلا إليه من قرارات وتوصيات، لدرجة أن المنتدى تحول بعد مرور عشرين عاما على تأسيسه لمنصة ناجحة للتعاون الودي بين الصين والدول العربية في شتى المجالات. وقد طرح الرئيس الصيني السابق هو جين تاو أربعة مبادئ أساسية لتنمية العلاقات العربية- الصينية في ظل المنتدى وهي: تعزيز العلاقات السياسية على أساس الاحترام المتبادل، وتكثيف التواصل التجاري لتحقيق التنمية المشتركة، وتوسيع التبادل الثقافي لتحقيق الفائدة المتبادلة، وتوطيد التعاون في المحافل الدولية لحفظ السلم العالمي. لقد أدى المنتدى منذ تأسيسه حتى الآن دورا مهما بوصفه إطارا فعالا للحوار الجماعي وتطوير علاقات التعاون الإستراتيجي بين الصين والدول العربية، بما يتفق مع مصالحهما الأساسية والإستراتيجية، والإسهام في تعزيز السلام والاستقرار والتنمية في العالم.
إن للمنتدى فرصة إستراتيجية مهمة، تتمثل في نجاح مسار المفاوضات لتحرير التجارة بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي، وانتشار هذا المسار نحو أجزاء أخرى من المنطقة العربية. إذ من الممكن، في حال نجاح هذا المسعى، أن تتحول العلاقة بين الطرفين إلى كتلة اقتصادية واحدة لتفادي تذبذب أسعار الطاقة والمعادن التي تؤثر بشكل سلبي على التجارة البينية بين الطرفين، خاصة في ظل وجود مجالات تعاون جديدة وواعدة مثل الاستثمار المشترك في الصناعات البتروكيماوية والطاقات المتجددة والزراعة والتقنيات العالية والاستخدام السلمي للطاقة النووية.
شكل تأسيس منتدى التعاون الصيني- العربي خطوة إستراتيجية لمواجهة تحديات العولمة وتطوير العلاقات الصينية- العربية، من منظور إستراتيجي طويل الأمد. وبفضل الجهود المشتركة، تطورت نشاطات المنتدى بصورة كبيرة وفق آليات متنوعة، حققت إنجازات مهمة في المجالات السياسية والاقتصادية والتجارية والثقافية والشعبية.
على الرغم من الدور الكبير لمنتدى التعاون العربي- الصيني في تعزيز العلاقات بين الصين والدول العربية في مجالات مختلفة، ما زال دوره محدودا في مجال دعم الترجمة من اللغتين العربية والصينية، إذ دعا المنتدى في دورته السادسة التي عقدت في بكين في عام 2014، إلى العمل على توقيع مذكرة تفاهم بين الجانبين في مجال الترجمة والنشر للكتب العربية والأجنبية. ولتطوير التعاون العربي- الصيني في مجال الترجمة، يمكن للجانبين ترجمة عشرين كتابا سنويا أو أكثر من خلال استغلال آليات منتدى التعاون العربي- الصيني بحيث يتولى كل من الجانبين ترجمة نصفها، ويمكن لجامعة الدول العربية الاستفادة من جهود المعهد العالي للترجمة التابع لجامعة الدول العربية الذي يقع مقره في الجزائر، وتشجيع الجهود الفردية في مجال الترجمة من قبل الجامعات والمؤسسات الفكرية والاجتماعية وقطاع الأعمال، فضلا عن وضع سجل إلكتروني تحدد فيه عناوين الكتب المترجمة من وإلى اللغتين، وتفعيل الآليات القانونية الجماعية الموقعة في إطار منتدى التعاون العربي- الصيني، أو الثنائية الموقعة مع كل من الكويت ومصر.
إن هناك إمكانية لتحويل المنتدى إلى منظمة، على غرار منظمة شانغهاي للتعاون، لغرض تقوية العلاقات السياسية بين الطرفين، خاصة بعد صدور وثيقة سياسة الصين تجاه الدول العربية التي تحمل رؤية إستراتيجية للتعاون والشراكة مع الدول العربية، والعمل على رفع وتيرة مستوى مؤتمرات رجال الأعمال التي تعقد في ظل المنتدى وتناقش قضايا الاستثمار والتجارة بعد نجاحها في تحقيق التكامل بين الاقتصادين الصيني والعربي، ودعم التعاون في مجال الطاقة، لا سيما النفط والغاز الطبيعي، وفي مجالات الاستخراج والتكرير والنقل، وتحقيق تنسيق في الخدمات الهندسية والتقنية في الحقول النفطية وتجارة المعدات والمعايير القطاعية، وتعزيز التعاون في مجال الطاقة المتجددة خاصة الطاقة الشمسية والكهرومائية وطاقة الرياح، وتحقيق شراكة في بناء مركز التدريب الصيني- العربي للطاقة النظيفة، وإنشاء بنك أو صندوق مشترك صيني- عربي للاستفادة من الوفورات المادية لكلا الطرفين، على غرار البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية.
ستعمل كل من الصين والدول العربية على تطوير الروابط الإستراتيجية، ليصبحا شريكين في بناء “الحزام والطريق”. فكما تشترك الصين والدول العربية في صفتين، وهما أنهما من الدول النامية، وأنهما تواجهان مهام الإصلاح والتنمية والاستقرار من أجل تحفيز عمليات التصنيع والتكنولوجيا وتطوير التكنولوجيا الفائقة، وتحسين المستويات المعيشية لشعبيهما، كذلك يشتركان في سعيهما إلى تحقيق خططهما وإستراتيجيتهما التنموية المتوسطة والبعيدة المدى. فالصين تعمل من جانبها على بناء مجتمع الحياة الرغيدة واستغلال الوضع المؤاتي لإطلاق مسيرة جديدة لبناء دولة اشتراكية حديثة على نحو شامل، كذلك الدول العربية تسعى حسب ظروفها الداخلية لتطوير ذاتها وبناء اقتصاداتها من خلال خطط متنوعة، ومنها “رؤية مصر 2030″ في مصر، و”رؤية 2030″ في السعودية والإمارات والبحرين وقطر، و”الخطة الخامسة والأربعون السنوية” في الجزائر، و”إستراتيجية التنمية المستدامة” في الأردن، و”رؤية 2025″ في الكويت، و”مدينة الملك محمد السادس للعلوم والتكنولوجيا” بطنجة في المغرب، ومشروعات إعادة إعمار العراق التي وصلت إلى أكثر من 157 مشروعا وغيرها، ومن أجل تحقيق أهداف التنمية المشتركة لكليهما. وسوف تتعاون الصين مع الدول العربية، من خلال تحقيق التقارب الإستراتيجي وتطويره، من أجل الوصول إلى أهدافهما المشتركة في ظل مبادرة “الحزام والطريق”.
ستعمل كل من الصين والدول العربية على تعزيز التعاون الإقليمي والدولي، عبر معارضتهما لسياسات الهيمنة وفرض القوة من قبل الدول الكبرى على الدول الصغرى والضعيفة، وتدعوان إلى المحافظة على مقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئها. كما أن الصين تدعم جامعة الدول العربية في تأدية دور محوري في الشؤون الدولية والإقليمية، وستعمل الصين والدول العربية على تعزيز التنسيق والاتصال بشأن القضايا الساخنة مثل قضية فلسطين، والأزمتين السورية واليمنية، ومكافحة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط، وتعزيز التسوية السلمية والعادلة للقضايا المهمة في الشرق الأوسط. وتشارك الصين في منصات الحوكمة العالمية المتعددة الأطراف، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومجموعة العشرين، للمحافظة على حقوق ومصالح البلدان النامية على نحو مشترك.
وانسجاما مع رغبة الصين في التوجه غربا ورغبة الدول العربية في التوجه شرقا، في إطار مبادرة “الحزام والطريق”، سيعمل كلاهما على تعزيز التفاهم المشترك الذي من شأنه توسيع أطر العلاقات بينهما وتعميقها، إذ سيساعد ذلك على زيادة عدد السياح والطلاب الصينيين والعرب بشكل مطرد، وستصبح النساء والشباب والشخصيات الدينية والفنانون ووسائل الإعلام والكليات ومراكز الفكر لكلا الجانبين سفراء لحوار الحضارات والتبادلات الودية. ومستقبلا، سيسعى الشعب الصيني جاهدا لتحقيق الحلم الصيني في تجديد نهضة الأمة الصينية، كما ستسعى الدول العربية جاهدة لتحقق الحلم العربي بالازدهار الوطني والتنمية، ويمكن أن يتكاتف الشعبان العربي والصيني في بناء “طريق الحرير الثقافي للقرن 21”. وفي إطار التعاون المشترك لبناء “الحزام والطريق”، دخل التعاون الجماعي بين الصين والدول العربية وعملية بناء وتطوير منتدى التعاون العربي- الصيني حقبة جديدة، ويمكن في ظل الجهود المشتركة والتعاون بين الجانبين، أن تصبح آلية المنتدى أكثر منهجية، وعملية التشغيل أكثر فعالية، وسوف يحقق التعاون الجماعي بين الصين والدول العربية في إطار منتدى التعاون النتائج والإنجازات المتوخاة من تأسيسه.
اتخذ التعاون العربي- الصيني في ظل المنتدى، منحى تصاعديا من حيث الإنجازات المتحققة، وذلك خلال السنوات العشرين الماضية منذ تأسيسه، والإنجازات التي حققها دفعت الجانبين إلى بذل المزيد من الجهود لتطويره وتحسين مستوى أعماله ونشاطاته.
إن التعاون العربي- الصيني، وعلى الرغم من تحقيقه تقدما كبيرا، ما زال دون المستوى المنشود، إذ لم يصل بعد إلى مستوى التعاون بين الصين وجيرانها في المجال القريب لأسباب متعددة أبرزها:
1- التدخلات الأمريكية التي تحاول إعاقة العلاقات بين الجانبين، خشية أن تحتل الصين مكانة الولايات المتحدة الأمريكية المهيمنة في الشرق الأوسط؛
2- حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني التي عانتها المنطقة، لا سيما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في عام 2003، واندلاع الانتفاضات والحركات الاحتجاجية العربية؛
3- المصاعب الاقتصادية التي عانت منها الصين والدول العربية، بسبب جائحة كوفيد- 19 التي ضربت العالم في نهاية عام 2019؛
4- حالة التنافس التي سادت الشرق الأوسط خلال هذه الفترة بين القوى الإقليمية الكبرى في المنطقة، لا سيما السعودية وإيران، وحالة الاستقطاب السياسي التي تركت تأثيرها على مبادرة “الحزام والطريق” التي ترعاها الصين، إذ تعد دول الشرق الأوسط جزءا منها ومساهما رئيسيا فيها.
إن كل الأسباب الآنفة الذكر لم تمنع الطرفين من تجاوز هذه الصعوبات، من خلال العمل المشترك ومواصلة عقد الاجتماعات وإقامة النشاطات المختلفة حتى لو كان عبر تقنية الفيديو كونفرنس.
الدكتورة ابتسام محمد العامري، أستاذة بكلية العلوم السياسية في جامعة بغداد.