البروفيسور جعفر كرار أحمد
تحتفل المؤسسات الرسمية والشعبية والأكاديمية والإعلامية هذا العام، بمناسبة مرور عشرين عاما على تأسيس منتدى التعاون العربي- الصيني؛ هذه الآلية الجبارة التي نقلت العلاقات العربية- الصينية من شكلها التقليدي إلى علاقة قائمة على التعاون الإستراتيجي الشامل والمصير المشترك للأمتين الصديقتين.
في الطريق الطويل إلى شراكة المصير المشترك القائمة حاليا بين الجانبين، عقد منتدى التعاون العربي- الصيني خلال العقدين الماضيين تسع دورات للاجتماع الوزاري لمنتدى التعاون العربي- الصيني وابتدع 17 آلية للتعاون بين الجانبين، هدفها الرئيسي الإسهام في تحقيق أهداف المنتدى وتطوير العلاقات في كافة المجالات، وأهم هذه الآليات على الإطلاق اجتماعات كبار المسؤولين التي تنسق انعقاد الاجتماعات الوزارية وكذلك الآليات الاقتصادية مثل آلية رجال وسيدات الأعمال، والطاقة، والزراعة، وغيرها من الآليات.
العشرية الأولى وسنوات التأسيس.. نتائج المنتدى خلال الفترة من 2004 إلى 2014
عُقدت خلال العشرية الأولى للمنتدى خمس دورات للاجتماع الوزاري لمنتدى التعاون العربي- الصيني، كما وضعت حتى عام 2014 ست خطط وبرامج تنفيذية للمنتدى. كما تم تنظيم اجتماعات لاثنتي عشرة آلية تم التوافق حولها خلال هذه الفترة. حيث تم الإعلان خلال الدورتين الأولى والثانية للاجتماع الوزاري للمنتدى عن أهدافه وطبيعة الشراكة التي يسعى المنتدى لإقامتها، ووصفتها وثائق الدورتين بأنها “شراكة جديدة قائمة على المساواة والمنفعة المتبادلة والتعاون الموجه نحو التنمية المستدامة”. وفي إشارة مهمة من الجانب الصيني، تعكس اهتمامه البالغ بآلية المنتدى الجديدة، تم مباشرة بعد الدورة الأولى للاجتماع الوزاري للمنتدى تعيين الدبلوماسي الصيني المخضرم والخبير في شؤون الشرق الأوسط السفير وو سي كه في نوفمبر 2005 مندوبا مفوضا للصين لدى جامعة الدول العربية لمتابعة شؤون المنتدى ومجمل العلاقات العربية- الصينية.
بدأ المنتدى رحلته الناجحة ومضى في تعزيز الآليات التي أعلنها في سنواته الأولى وابتداع آليات جديدة ليصبح المنتدى منظارا للعصر وبوصلة مهمة تقود هذه العلاقات التاريخية نحو المستقبل.
بعد ستة أعوام من العمل الجاد من الطرفين في إطار المنتدى ومع التقدم المهم في العلاقات رأى الجانبان الصيني والعربي ضرورة التقدم نحو بناء نمط جديد من التعاون في إطار المنتدى ليعلن الطرفان خلال الدورة الخامسة للاجتماع الوزاري في 30 مايو 2010 عن إقامة علاقات التعاون الإستراتيجي القائم على التعاون الشامل والتنمية المشتركة في إطار منتدى التعاون العربي- الصيني، ليعكس ذلك طبيعة التقدم المحرز في العلاقات في السنوات الست منذ إعلان المنتدى، وليعلن بذلك الطرفان بشكل حاسم أيضا أن تطوير علاقات الصداقة بين الصين والدول العربية هو اختيار إستراتيجي لا يتزعزع للأمتين، مهما كانت طبيعة التغيرات وتطور الأوضاع على الصعيدين الإقليمي والدولي. لقد كان الإعلان عن إقامة علاقات الشراكة الإستراتيجية الذي أزعج القوى الغربية وحلفاءها في الشرق الأوسط أهم تطور خلال العشرية الأولى للمنتدى، وستظل نتائج تلك الدورة كما سنرى لاحقا تلقي بتأثيرها الإيجابي على مجمل التعاون العربي- الصيني لعقود طويله قادمة. علما بأنه وفي ذات الوقت كان مجلس التعاون لدول الخليج العربية وجمهورية الصين الشعبية قد وقعا في الرابع من يونيو 2010 مذكرة تفاهم حول الحوار الإستراتيجي بين الطرفين.
لقد أكدت إتفاقية إقامة علاقة التعاون الإستراتيجي ومذكرة التفاهم بين مجلس التعاون الخليجي والصين التي تم توقيعها في أجواء زخم العلاقات العربية- الصينية في إطار المنتدى، أن العلاقات العربية- الصينية، قد دخلت مرحلة جديدة مبنية على الثقة الإستراتيجية والمصالح الجوهرية للطرفين.
كانت الدورة السادسة للاجتماع الوزاري للمنتدى المنعقدة في مدينة بكين في 5 يونيو 2014 أخر دورات العشرية الأولى للمنتدى، حيث احتفل إعلان بكين الصادر عن الدورة بالتقدم الكبير والهائل للعلاقات العربية- الصينية في العشرية الأولى التي انتهت بإعلان إقامة الشراكة الإستراتيجية بين الصين والدول العربية، والحوار الإستراتيجي الخليجي- الصيني. وكان إعلان بكين قد أكد على أهمية مواصلة تعميق علاقات التعاون الإستراتيجي وتطوير آليات التعاون في إطار المنتدى وتعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري، والأهم ترحيب الجانب العربي خلال هذه الدورة بمبادرة “الحزام والطريق”. وكان الرئيس شي جين بينغ قد ألقى كلمة مهمة خلال الجلسة الافتتاحية في هذه الدورة دعا فيها إلى مساهمة الجانبين الصيني والعربي في بناء “الحزام والطريق” من خلال التشارك والتقاسم. وفي خطوة متقدمة تعكس مدى ارتياح القيادة الصينية للمدى الذي بلغته العلاقات خلال العشرية الأولى، دعا شي جين بينغ إلى بناء “رابطة مصير مشترك بين الصين والدول العربية”، مشيرا إلى أن التشارك في بناء “الحزام والطريق” يمثل فرصة جديدة ونقطة انطلاق جديدة لتطوير المنتدى.
هذا وكانت الدورة قد اعتمدت الخطة التنموية العشرية لمنتدى التعاون العربي- الصيني للفترة من 2014 إلى 2024، والتي تعتبر خارطة طريق مهمة للعشرية الثانية للمنتدى، حيث أكدت الخطة التنموية مواصلة تعميق علاقات التعاون الإستراتيجي وتوطيد الثقة السياسية المتبادلة ومواصلة الدعم في القضايا المتعلقة بالمصالح الجوهرية والحيوية للجانبين، وتعزيز التشاور السياسي والتنسيق على الساحتين الإقليمية والدولية من خلال إقامة آلية حوار سياسي إستراتيجي على مستوى كبار المسؤولين من الجانبين يعقد سنويا، وتعميق علاقات التعاون الإستراتيجي في المجالات التجارية والصناعية والتكنولوجية والاستثمار والطاقة والزراعة وغيرها.
العشرية الثانية.. الحصاد العظيم
كانت الدورة السابعة للاجتماع الوزاري المنعقدة في 12 مايو 2016 هي أول دورة تعقد في العشرية الثانية للمنتدى. إلا أن تطورين مهمين كانا قد سبقا هذه الدورة المهمة، وهما أول وثيقة رسمية تصدرها الصين حول سياستها تجاه الدول العربية والتي صدرت في أجواء حملة غربية مكثفة على العرب والثقافة العربية والإسلام نتيجة لعمليات داعش الإرهابية والوحشية داخل وخارج المنطقة. في أجواء العزلة العربية هذه، جددت الصين عبر هذه الوثيقة ثقتها في العرب وفي التعاون معهم بل دعت إلى تعميق وتعزيز علاقات التعاون الإستراتيجي القائمة على التعاون الشامل والتنمية المشتركة وإقامة علاقات دولية من نوع جديد تتمحور حول التعاون والكسب المشترك والتبادل الرفيع المستوى في قضايا الطاقة والتجارة والاستثمار ونقل التكنولوجيا والأمن. وقد أكدت الوثيقة كذلك أن منتدى التعاون العربي- الصيني سيبقى هو الحاملة والرافعة الرئيسية للتعاون العربي- الصيني في الحاضر والمستقبل. وكان الرئيس شي جين بينغ قد قام بعد أسبوع واحد من صدور هذه الوثيقة بزيارة إلى جمهورية مصر العربية وإلقاء كلمة مهمة في مقر جامعة الدول العربية بالقاهرة بتاريخ 21 يناير 2016، قدم خلالها الرئيس شي رؤية واضحة للعلاقات الصينية- العربية شملت مبادرات للتعاون وتبادل الدعم في القضايا الجوهرية وتطوير العلاقات في كافة المجالات الاقتصادية والتكنولوجية وغيرها. اهتم شي أيضا خلال هذه الكلمة بتقديم رؤيته لحل النزاعات في المنطقة عبر الحوار والتنمية. لقد كانت زيارة شي لمقر الجامعة العربية رسالة قوية جددت من خلالها القيادة الصينية الجديدة تمسكها وثقتها الإستراتيجية بالعلاقات الصينية- العربية، كما أظهرت الصين للقوى الكبرى حينها دعمها للعرب في وقت صعب وعصيب.
بعد أربعة أشهر فقط من هذه التطورات المهمة والمشجعة، عُقدت كما أشرنا أعلاه الدورة السابعة للاجتماع الوزاري للمنتدى في 12 مايو 2016 وهي أولى دورات العشرية الثانية للمنتدى وقد أقرت هذه الدورة ضرورة اتخاذ خطوات عمليه للتشارك في بناء “الحزام والطريق” وتنفيذ أجندة التنمية المستدامة 2030، وإنشاء آلية لتعزيز التعاون في المجال الزراعي. ورحبت الدورة أيضا بإنشاء مركز الدراسات الصيني- العربي للإصلاح والتنمية بوصفه آلية مهمة لتبادل الخبرات. وكان الطرفان العربي والصيني قد وقعا خلال الدورة الثامنة للاجتماع الوزاري التي عقدت في يوليو 2018 على الإعلان التنفيذي الصيني- العربي لبناء “الحزام والطريق”، كما أكدت الدورة على أهمية الارتقاء بالعلاقات العربية- الصينية إلى علاقات الشراكة الإستراتيجية القائمة على التعاون الشامل والتنمية المشتركة لمستقبل أفضل بما يحقق التنمية المشتركة في ظل رابطة مصير مشترك صينية- عربية. وقد أعادت الدورة التاسعة للمنتدى التي عقدت في 6 يوليو 2020 التأكيد على أهمية العمل على إقامة رابطة المصير المشترك الصينية- العربية في العصر الجديد، وأشارت هذه الدورة المهمة إلى ضرورة عقد أول قمة عربية- صينية للدفع بالشراكة إلى آفاق جديدة والإعلان رسميا عن إقامة رابطة المصير المشترك الصينية- العربية في العصر الجديد.
بالفعل نفذ الجانبان قرارات وتوصيات الدورة التاسعة للاجتماع الوزاري للمنتدى، وعُقدت خلال الفترة من 7- 9 ديسمبر 2022 أول قمة عربية- صينية في تاريخ العلاقات بين الجانبين. وكانت أهم نتائج تلك القمة والقمتين الأخرتين اللتين عقدتا في تلك الفترة وهما القمة الصينية- الخليجية والقمة الصينية- السعودية، هو التوافق في الآراء بشأن ضرورة نقل العلاقات العربية- الصينية إلى علاقات قائمة على أساس بناء رابطة المصير المشترك الصينية- العربية في العصر الجديد. بما يعني أن الشراكة العربية- الصينية في ظل المنتدى قد اكتست في ثوبها الجديد صفة مجتمعية واسعة، شراكة إستراتيجية تنخرط فيها المجتمعات العربية والصينية. وبهذا تكون القمة العربية- الصينية قد نقلت منتدى التعاون العربي- الصيني من طابعه الرسمي وشبه الرسمي بلاعبيه المحدودين إلى فضاء المجتمع الواسع، إلى فضاء المصير العربي- الصيني المشترك الوسيع.
كانت العشرية الأولى هي سنوات التأسيس، حيث نجح الطرفان العربي والصيني في تأسيس آلية المنتدى حتى أصبحت أهم روافع العلاقات بين البلدين، كما أصبحت واحدة من آليات التعاون الإقليمي المهمة. وبالرغم من مهام عملية التأسيس المعقدة، شهدت العشرية الأولى نجاحات مهمة فبالإضافة إلى ترسيخ المنتدى كآلية ناجحة وفاعلة ومهمة نقلت العلاقات إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية خلال ستة أعوام فقط واضعة بذلك أساسا قويا بنى عليه الطرفان جسور الثقة الإستراتيجية والتضامن والتشارك لترتفع العلاقات بنهاية العشرية الثانية لمستوى بناء رابطة المصير المشترك الصينية- العربية في العصر الجديد، وهو مستوى لم تبلغه علاقات الطرفين مع أي شريك إقليمي أو دولي آخر. ومرة أخرى وبفضل عملية التأسيس المتقنة خلال العشرية الأولى، شهدت العشرية الثانية 2014- 2024 حصادا وفيرا، حيث أصبحت العلاقات بفضل المنتدى أكثر متانة ولمس الطرفان الفوائد العظيمة العائدة من وراء هذه الشراكة الناجحة. وقد تجسد التطور الجديد في العلاقات خلال هذه الفترة في عدد من الأحداث والنتائج المهمة، منها صدور أول وثيقة رسمية من الصين حول سياستها تجاه الدول العربية، وزيارة الرئيس شي جين بينغ المهمة إلى مقر جامعة الدول العربية. شهدت هذه الفترة أيضا خطوات عملية من الجانبين لتنفيذ بناء “الحزام والطريق” وإنشاء مركز الدراسات الصيني- العربي للإصلاح والتنمية. كما شهدت تطورا مهما وهو انعقاد أول دورة لمنتدى المرأة العربية والصينية، وهذا في اعتقادي حدث كبير بل ضخم إذ إن المرأة نصف المنتدى. وفي تقديري أيضا حدث بنهاية هذه الفترة من تاريخ المنتدى تطابق تام بين الطرفين حول الشواغل والقضايا الجوهرية التي تخصهما، حيث قدمت الصين دعمها الكامل للقضية الفلسطينية، قضية العرب المركزية، وأدانت مع العرب بشكل واضح قرار الولايات المتحدة الأمريكية بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، واعتبرت القرار باطلا ولاغيا، ووصفت الصين نقل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية إلى القدس بالسابقة الخطيرة، كما رفضت قرار الولايات المتحدة الأمريكية بالاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان العربي المحتل. خلال هذه الفترة أصدرت الصين أيضا أوراقا وبيانات ومبادرات من بينها مبادرة النقاط الأربعة لحل القضية الفلسطينية التي أعلنها الرئيس الصيني في يوليو 2017. وبحلول الدورة التاسعة للاجتماع الوزاري كان العرب أيضا قد قدموا دعما قويا لقضايا وشواغل الصين الجوهرية مثل قضايا تايوان، شيتسانغ، هونغ كونغ، ورفضوا قيام قوى التطرف الديني والقوى الانفصالية القومية والقوى الإرهابية بالنشاطات الانفصالية المعادية للصين، وأصبح عدد من الدول العربية أعضاء فاعلين في منظمات إقليمية تؤدي فيها الصين أدوارا رئيسية مثل منظمة شانغهاي للتعاون، منتدى التفاعل وتدابير الثقة في آسيا (سيكا)، البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، ومجموعة بريكس. ولا يفوتنا القول إن كل هذا الزخم قد أدى إلى اختراق كبير في بنية التجارة العربية- الصينية، فقد قفز حجم التبادل التجاري من 7ر36 مليار دولار أمريكي في عام 2004 عام تأسيس المنتدى، إلى 2ر251 مليار دولار أمريكي عند احتفالنا في عام 2014 بنهاية العشرية الأولى، ليرتفع إلى 431 مليار دولار أمريكي في عام 2022. ونتوقع أن يرتفع بنهاية العشرية الثالثة إلى أكثر من 600 مليار دولار أمريكي.
العشرية الثالثة.. المنتدى في العصر الجديد
بعد عقدين من التعاون الجاد والصبور في إطار المنتدى، بلغت الشراكة الإستراتيجية القائمة على أعمدة الثقة الإستراتيجية والمدفوعة ببناء رابطة المصير المشترك الصينية- العربية، مرحلة من التطور لن يكون من السهل التأثير في مسارها العام. كما ستكون هذه الشراكة العميقة الجذور دائما قادرة على تجاوز الصعوبات والتحديات، وسيظل المنتدى ناقلا للصداقة العربية- الصينية من جيل لجيل. لقد كان تأسيس المنتدى استجابة حكيمة لصوت العصر، وعلى القائمين عليه أن يستمعوا جيدا من آونة لأخرى لصوت وروح العصر ليحددوا المسار الصحيح للمنتدى في عشرينياته القادمات. وفي تقديري أن من المهم أن يضع الجانبان وهم يحتفلون بنهاية العشرية الثانية خارطة طريق للمنتدى في العصر الجديد، وآمل أن يكون من أولويات العشرية الثالثة (2024– 2034) التوقيع على اتفاقية التجارة الحرة بين الصين ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، والتي ستفتح الطريق أيضا أمام التوقيع على اتفاق التجارة الحرة بين الصين والدول العربية، وعلى الطرفين أن يقدمها التنازلات اللازمة باتجاه هذا الهدف.
البروفيسور جعفر كرار أحمد، باحث في مركز الدراسات الصيني- العربي للإصلاح والتنمية بجامعة شانغهاي للدراسات الدولية، وسفير السودان السابق لدى الصين.